فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة.
ويتأكد هذا بقوله تعالى: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقتص للجماء من القرناء» وللعقلاء فيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة.
وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض، ولما كان إيصال العوض إليها واجبًا، فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها.
والقول الثاني: قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال، بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية.
واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور:
الحجة الأولى: أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزمًا للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزمًا للذم محال، لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزمًا للذم بسبب أمر منفصل، لأن ما بالذات لا يبطل عند عروض أمر من الخارج.
والحجة الثانية: أنه تعالى مالك لكل المحدثات، والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض.
والحجة الثالثة: أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض، لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل، فثبت أن القول بالعوض باطل. والله أعلم.
إذا عرفت هذا: فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب.
الفرع الأول: قال القاضي: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام، وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا، فإنه يجب على الله حشره عقلًا في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلًا، إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل، فمن حيث السمع يقطع بذلك.
وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض ألبتة، لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلًا.
فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لابد وأن يحصل معه شيء من الإيلام، وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض ألبتة.
الفرع الثاني: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله.
وهي أقسام: منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية، مثل السباع العادية والحشرات المؤذية، ومنها آلمها بالأمراض، ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضًا فذلك العوض على ذلك الظالم.
فإن قيل: إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض؟
أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة.
الفرع الثالث: المراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به، فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار.
الفرع الرابع: مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع.
قال القاضي: وهو قول أكثر المفسرين، لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها ترابًا، وعند هذا يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا.
قال أبو القاسم البخلي: يجب أن يكون العوض دائمًا واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملًا شاقًا والأجرة منقطعة، فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة.
واحتج البلخي على قوله، بأن قال: إنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضًا آخر، وهكذا إلى ما لا آخر له.
والجواب عنه: أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام. والله أعلم.
الفرع الخامس: أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضًا، فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضًا على الله تعالى فإنه تعالى ينقل ذلك العوض إلى المظلوم.
وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض، فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة. والله أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرة بعد بيان أحوالها في الدنيا. وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم، والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لاإلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء. وقيل: حشرُها موتها. ويأباه مقامُ تهويلِ الخطب وتفظيعِ الحال. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)}.
التّفسير:
لاتساع البحث حول هذه الآية، سنبدأ بشرح ألفاظها، ثمّ نفسّرها بصورة إِجمالية، ثمّ نتناول سائر جوانبها بالبحث.
الدّابة من دبّ والدبيب المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان والحشرات أكثر، وقد ورد في الحديث: «لا يدخل الجنّة ديبوب» وهو النمام الذي يمشي بين الناس بالنميمة.
الطائر كل ذي جناح يسبح في الهواء، وقد يوصف بها بعض الأُمور المعنوية التي تتقدم بسرعة واندفاع، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه.
{أُمم} جمع أُمّة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما، كالدين الواحد أو الزمان الواحد أو المكان الواحد.
{يحشرون} من حشر بمعنى الجمع، والمعنى الوارد في القرآن يقصد به يوم القيامة، وخاصة لأنّه يقول: {إِلى ربّهم}.
هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة، فتتحدث عن الحشر وبعث عام يشمل جميع الكائنات الحية والحيوانات، فتقول أولا: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إِلاّ أُمم أمثالكم}.
يتّضح من هذا أنّ فصائل الحيوان والطيور أُمم مثل البشر، غير أنّ للمفسّرين أقوالا مختلفة بشأن وجه الشبه في هذا التمثيل.
بعض يقول: إِنّ التشابه يختص بأسرار خلقتها العجيبة التي تدل على عظمة الخالق سبحانه.
وبعض آخر يرى التشابه في حاجاتها الحياتية المختلفة وفي طرق سد تلك الحاجات وإِشباعها.
ومنهم من يعتقد أنّ التشابه كائن في تشابه الإِدراك والفهم والمشاعر، أي أنّ للحيوان والطير أيضًا- إِدراكه ومشاعره في عالمه الخاص، ويعرف الله ويسبح له ويقدسه بحسب طاقته، وإن تكن قوّة إِداركه أدنى ممّا في الإِنسان، ثمّ إِنّ ذيل هذه الآية- كما سيأتي بيانه- يؤيد هذا الرأي الأخير.
ثمّ تقول الآية: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}.
لعل المقصود بالكتاب هو القرآن الذي يضم كل شيء (ممّا يتعلق بتربية الإِنسان وهدايته وتكامله) يبيّنه مرّة بيانًا عامًا، كالحث على طلب العلم مطلقًا، ومرّة بيانًا تفصيليًا كالكثير من الأحكام الإِسلامية والقضايا الأخلاقية.
ثمّة إِحتمال آخر يقول: إِنّ المقصود بالكتاب هو عالم الوجود إِذ أنّ عالم الخليقة مثل الكتاب الضخم، يضم كلّ شيء ولا ينسى شيئًا.
ليس ثمّة ما يمنع من أن تشمل الآية كلا التّفسيرين، فالقرآن لم يترك شيئًا تربويًا إِلاّ وذكره بين دفتيه، كما أنّ عالم الخليقة يخلو من كل نقص وعوز.
وتختم الآية بالقول: {ثمّ إِلى ربّهم يحشرون}.
يظهر أنّ ضمير (هم) يعود إِلى الدواب والطير على اختلاف أنواعها وأصنافها، أي أنّ لها- أيضًا- بعثًا ونشورًا، وثوابًا وعقابًا، وهذا ما يقول به معظم المفسّرين، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين ينكرون هذا، ويفسّرون هذه الآية والآيات المشابهة تفسيرًا آخر، كقولهم: إِنّ معنى الحشر إِلى الله هو الموت والرجوع إِلى نهاية الحياة.
ظاهرالآية يشير- كما قلنا- إِلى البعث والحشر يوم القيامة.
من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم: إِنّ الله الذي خلق جميع الحيوانات ووفر لها ما تحتاجه، ورعى كل أفعالها، وجعل لها حشرًا ونشورًا، قد أوجد لكم دون شك بعثًا وقيامة، وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنّه ليس ثمّة شيء سوى الحياة الدنيا والممات.
ملاحظات:

.1- هل هناك بعث للحيوانات؟

ما من شك أنّ الشّرط الاُوّل للمحاسبة والجزاء هو العقل والإِدراك ويستتبعهما التكليف والمسؤولية.
يقول أصحاب هذا الرأي: إِنّ لديهم ما يثبت أن للحيوانات إِدراكًا وفهمًا بمقدار ما تطيق، ومن ذلك أن حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق ومثير للعجب، ويدلّ على إِرتفاع مستوى إدراكها وفهمها، فمن ذا الذي لم يسمع بالنمل والنحل وتمدّنها العجيب ونظامها المحير في بناء بيوتها وخلاياها، ولم يستحسن فهمها وإِدراكها؟ فعلى الرغم من أنّ بعضهم يعزوا ذلك كله إِلى نوع من الإلهام الغريزي، فليس ثمّة دليل على أنّ هذه الأعمال تجري بصورة غريزية لا عقلية.
ما الدليل على أنّ هذه الأعمال- حسبما يدل ظاهرها- ليست ناشئة عن تعقل وإِدراك؟ كثيرًا ما يحدث أنّ الحيوان يبتكر- إِستجابة لظرف من الظروف- شيئًا لم يسبق له أن مرّ به وجربه، فالشاة التي لم يسبق لها أن رأت ذئبًا في حياتها تفزغ منه أوّل ما تراه وتدرك خطره عليها، وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها.
إِن العلاقة التي تتكون بين الحيوان وصاحبه تدريجيًا دليل آخر على هذا الأمر، فكثير من الكلاب المفترسة الخطرة تعامل أصحابها- بل وحتى أطفالهم- كما يعاملهم الخادم العطوف.
ويحكى الكثير عن وفاء الحيوانات وعن تقديمها كثيرًا من الخدمات الإِنسانية ولا شك أنّ هذه أُمور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة، إِذ إِنّ الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار، أمّا الأعمال التي تقع في ظروف خاصّة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة، فهذه تكون إِلى التعقل والإِدراك أقرب منها إِلى الغريزة.
نشاهد اليوم أنّ حيوانات مختلفة يجري تدريبها لأغراض متنوعة، فالكلاب البوليسية تدرب للقبض على المجرمين، والحمام الزاجل لنقل الرسائل، وحيوانات أُخرى ترسل لابتياع بعض الحوائج من السوق، وحيوانات أُخرى للصيد، وهي كلها تؤدي مهماتها بكل دقة وإِتقان (حتى أنّهم افتتحوا مؤخرًا مدارس خاصّة لتعليم مختلف الحيوانات)!
فضلا عن ذلك كلّه، فإنّ هناك بعض الآيات التي تدل- بوضوح- على أنّ للحيوانات فهمًا وإِدراكًا، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان، وحكاية ذهاب الهدهد إِلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان.
ثمّة أحاديث إِسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات، من ذلك ما روي عن أبي ذر قال: بيّنا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إِذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتدرون فيما انتطحتا؟» فقالوا: لا ندري، قال: «ولكن الله يدري وسيقضي بينهما».
وفي رواية بطرق أهل السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير هذه الآية أنّه قال: «إِنّه يحشر هذه الأُمم يوم القيامة ويقتص من بعضها لبعض حتى يقتص للجماء من القرناء».
وفي الآية (5) من سورة التكوير يقول سبحانه: {وإِذا الوحوش حشرت} وهي دليل آخر على ذلك.

.2- الحشر والتكليف:

تطرح هنا مسألة يتوقف فهم الآية عليها، وهي هل أن مقولة تكليف الحيوانات معقولة، مع أنّ من شروط التكليف العقل، ولهذا لا يكون الطفل والمجنون مكلّفين؟ فهل للحيوانات ذلك العقل الذي يؤهلها للتكليف؟ وهل يمكن أن نعتبر الحيوان أكثر عقلا وإِدراكًا من الصبي غير البالغ ومن الجنون؟ فإِذا لم يكن له مثل هذا العقل والإِدراك، فكيف يجوز أن يكلّف، وبأي تكليف؟
للجواب على هذه السؤال نقول: إِنّ للتكليف مراحل ودرجات، وكل مرحلة تناسب درجة معينة من العقل والإِدراك، وانّ التكاليف الكثيرة المفروضة في القوانين الإِسلامية على الإِنسان تتطلب مستوى رفيعًا من العقل والإِدراك لإِنجازها، ولا يمكن أن نفرض مثل تلك التكاليف على الحيوانات طبعًا، لأنّ الشرط المطلوب لإِنجازها غير متوفر في الحيوانات، إِلاّ أنّ مرحلة من التكاليف البسيطة التي يكفي لها ما يناسبها من الفهم والإِدراك يمكن تصورها وقبولها في الحيوان ولا يمكن إِنكارها، بل من الصعب أن نرفض كل تكليف بشأن الأطفال والمجانين القادرين على فهم بعض المسائل، فالصبي الذي لم يبلغ سن الرشد- كأن يكون عمره 14 سنة مثلا- لو ارتكب جريمة قتل، وهو عالم بكل أضرار هذا العمل، فلا يمكن اعتباره بريئًا، والقوانين الجزائية في العالم تضع عقوبات على بعض جرائم الأطفال غير البالغين، وإِن كانت العقوبات أخف طبعًا.
وعليه، فإِنّ البلوغ واكتمال العقل من شروط التكليف في المراحل العليا المتكاملة، أمّا في المراحل الأدنى، أي في الذنوب التي لا يخفى قبحها حتى على من هم أدنى مرتبة، فان البلوغ والتكامل العقلي ليسا شرطًا لازمًا.
فإِذا أخذنا اختلاف مراحل التكليف واختلاف مراتب العقل بنظر الاعتبار، يمكن حل قضية الحيوانات أيضًا بهذا الشأن.